يقول الله تعالى:{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنّة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فان لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير} البقرة 265. ان ابتغاء مرضاة الله في الانفاق يعني خروج الرياء من دائرة الانفاق. ان الانفاق يكون أولا انفاقا في سبيل الله، ويكون ذلك باعتقاد النفس الجازم أن الله سبحانه هو الذي وهب المؤمن ماله ودمه، والجنة تطلق في اللغة: على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر يستر من يدخله، ومنها: جنّ أي ستر فمن يدخل الجنة يكون مستورا. الحق سبحانه بريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وتثبيتا من أنفسهم ضد الأنفس الشهوانية، فيكون الفرد منهم كمن دخل جنة كثيفة الزرع، هذه الجنة توجد في ربوة عالية محاطة بأمكنة منخفضة عنها فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على هذه الربوة؟ الله سبحانه أخبرنا بما سيحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث، ويكشف أسرار المياه الجوفية وفائدتها للزراعة، وهو أن الجنة التي في ربوة عالية لا يوجد بها مياه جوفية، لأن المياه الجوفية ان وجدت فانها تذهب الى جذر النباتات الشعرية فتفسدها بالعطن، فلا تستطيع هذه الجذور أن تمتص الغذاء اللازم للنبات فيشحب النبات بالاصفرار ويموت بعد ذلك. أما الجنة التي بربوة عالية، فالمياه التي تنزل عليها من المطر لها مصارف من جميع الجهات المنخفضة التي حولها، وكأنها ترتوي بأحدث ما توصل اليه العلم من وسائل الري، انها تأخذ المياه من أعلى أي من مطر، فتنزل المياه على الأوراق بما يجعلها تؤدي دورها فيما نسميه نحن بالتمثيل الكلورفيلي، وبعد ذلك تنساب المياه الى الجذور لتذيب العناصر اللازمة في التربة لغذاء النبات، وتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء، وينزل الماء الزائد من ذلك الى المصارف المنخفضة، وهذا أحدث اكتشاف لري الأرض الزراعية، فالمحصول يتضاعف انتاجه عندما يروى بقدر. اذن فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم هم مثل هذه الجنة التي تروى بأسلوب رباني، فاذا نزل عليها المطر الغزير أخذت منه حاجتها وينصرف باقي المطر عنها، وان لم يصبها مطرغزير فطل، والطل، وهو الرذاذ القليل يكفيها، لتؤتي ضعفين من انتاجها، واذا كان الضعف هو ما يساوي الشيء مرتين، فالضعفان يساويان الشيء أربع مرات، ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا ان الذي ينفق ماله ابتغاء وجه الله، هو غير الذي ينفق ماله رئاء الناس فيقول سبحانه:{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها اعصار فيه نار فاحترقت، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} البقرة 266. الحق سبحانه وتعالى يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة، فهل يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، وفيها من كل الثمرات ؟ ان الجنة بهذه الصفة فيها خير كثير، لكن صاحبها يصيبه الكبر ولم تعد فيه صحة وفتوة الشباب.. انه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون الى ذلك الخير، لأنه أصبح في الكبر وليس له طاقة يعمل بها. وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة لا لنفسه فقط، ولكن لذريته الضعفاء. هذه قمة التصوير للاحتياج الى الخير لا للنفس فقط ولكن للأبناء الضعفاء، اننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف: الظرف الأول: هوالجنة التي فيها من كل الخير. الظرف الثاني: هو الكبر والضعف والعجز عن العمل. الظرف الثالث: هو الذرية الضعفاء. هذه الجنة هاجمها اعصار فيه نار فاحترقت فأي حسرة يكون فيها هذا الرجل؟ انها حسرة شديدة، هكذا تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس. والاعصار كما نعرف هو الريح الشديدة المصحوبة برعد وبرق وأحيانا يكون فيه نار وذلك حين تكون الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر. هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس، ابتداء مطمع وانتهاء يائس. اذن فكل انسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا الابتداء المثير للطمع وذلك الانتهاء المليء باليأس، انها الفاجعة التي يصورها الشاعر بقوله: فأصبحت من ليلة الغداة كقابض على الماء خانته فروج الأصابع كلما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رأوها اقشعت وتجلت . محمد متولي الشعراوي